تحقيقات: هكذا دفعت إسرائيل بخطة سرّية للسيطرة على توزيع المساعدات في غزة

كشفت تحقيقات موسّعة نشرتها كل من “هآرتس” و”نيويورك تايمز”، اليوم الأحد، أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اختار شركة غير معروفة تُدعى “SRS” لتنظيم توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة ، دون مناقصة رسمية أو تنسيق مع المؤسسة الأمنية أو الجيش الإسرائيلي.
👈 الرجاء تابعونا على تلجرام ليصلكم كل جديد اضغط هنا 👉
ووفق التحقيقات، فإن ملامح مخطط تمّ العمل عليه بعيدًا عن الاعتبارات الإنسانية والتقيد بالقانون الدولي وقواعد الإغاثة، وتمت حياكته بعيدا عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، عبر شخصيات أمنية سابقة ورجال أعمال، وسط تمويل غامض وانتقادات دولية متصاعدة.
منتدى مغلق وقرار من خلف الكواليس
نشأ المشروع في الأسابيع الأولى بعد هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حين تشكلت شبكة غير رسمية من ضباط احتياط، ومستشارين إستراتيجيين، ورجال أعمال، توحّدت حول قناعة بأن الحكومة الإسرائيلية والجيش يفتقران إلى رؤية إستراتيجية لـ”اليوم التالي (للحرب) في غزة”. حمل هذا التجمع اسم “منتدى ميكفيه يسرائيل”، نسبة إلى الكلية الواقعة قرب تل أبيب والتي احتضنت اجتماعًا تأسيسيًا في كانون الأول/ ديسمبر 2023.
وضمّ المنتدى شخصيات بارزة، من بينها يوتام هكوهن، الذي أصبح لاحقًا مساعدًا لرومان غوفمان، الذي كان يتولى حينها ومنصب قائد وحدة تنسيق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في المناطق المحتلة، ويتولى الآن منصب المستشار العسكري لنتنياهو، إضافة إلى المستثمر في مجال الهايتك ليران تنكمان، ورجل الأعمال الإسرائيلي–الأميركي مايكل أيزنبرغ.
وبحسب “هآرتس”، أدار غوفمان الملف بموازاة عمله في منصبه السابق، حين شغل منصب قائد هيئة التنسيق والارتباط، وعمل مباشرة على ملف المساعدات. وضمّ فريقه في حينه ضباط احتياط بينهم الرائد في الاحتياط، ليران تنكمان، والنقيب في الاحتياط، يوتام كوهين، وهو نجل الجنرال المتقاعد غيرشون كوهين، والذي يشغل اليوم منصب المدير التنفيذي لشركة “OpenFox” التي تزود أنظمة لإدارة المعلومات لصالح وزارات حكومية.
ووفقا لما أوردته “نيويورك تايمز”، عُقدت لقاءات مغلقة في تل أبيب وفي منزل إيزنبرغ ب القدس ، وبدأت خلالها تتبلور فكرة إنشاء آلية توزيع موازية للأمم المتحدة تمهيدا لتجاوز المؤسسات الدولية وسيطرة إسرائيل الكاملة على آلية توزيع المساعدات.
تجاوز الأمم المتحدة دون تحمّل المسؤولية
ركزت النقاشات على كيفية تقويض سيطرة حركة حماس على سكان غزة من خلال المساعدات. كتب هكوهن في تموز/ يوليو 2023: “على إسرائيل أن تطور أدوات تسحب البساط من تحت أقدام حماس، لا أن تكتفي بتفكيك حكومتها مؤقتًا”، مضيفًا أن “العمل المباشر مع السكان وتولي توزيع المساعدات وبناء اليوم التالي” سيكون مفتاح هذا التحول.
لكن المشاركين لم يرغبوا بأن تتحمل إسرائيل مسؤولية مباشرة عن مليوني فلسطيني. وهنا نشأت فكرة التعاقد مع شركات خاصة، أجنبية وغير إسرائيلية، لتقديم الأمن، والإشراف على عمليات التوزيع والخدمات، في إطار الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة
ونقلت الصحيفة عن مصادر عسكرية أن الفريق كان يتردد كثيرًا على قيادة المنطقة الجنوبية دون تنسيق، وأن تعامل قائد المنقطة السابق، يارون فينكلمان، اقتصر على تقديم “غطاء عملياتي عند الحاجة”. لكن رغم ذلك، تلقى الجيش تعليمات من الحكومة بضرورة السماح للفريق بمواصلة عمله، باعتباره مرتبطًا مباشرة بمكتب رئيس الحكومة، وتحت إشراف الوزير رون ديرمر.
أعاد مكتب رئيس الحكومة تفعيل الفريق كمستشارين، بعد إقالة وزير الأمن السابق، يوآف غالانت، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ونقل صلاحيات إدارة ملف المساعدات إليه. وواصل الفريق الدفع باتجاه إدخال شركات خاصة إلى غزة، بينها “أوربيس”، التي بدأت بالتحضير ميدانيًا لتولي عملية التفتيش على محور “نيتساريم”، دون أن تكون قد وقّعت عقدًا رسميًا أو اجتازت إجراءات المنافسة.
وطلبت وزارة الأمن من الجيش تحويل 3 ملايين شيكل للشركة مقابل تحضير عرض، رغم أنها لم تُختر رسميًا، ولم يُعرف ما إذا كانت هناك شركات أخرى طلب منها تقديم عروض مشابهة. ضباط كبار في المؤسسة الأمنية قالوا إنهم فوجئوا عندما ظهر ممثلو الشركة في إسرائيل دون تجهيزات أو حتى زي موحد، واضطروا لشراء الملابس والمعدات من متجر محلي.
عند دخول الفريق إلى غزة، تبين أن بعض أفراده من الجنسية المصرية، وكانوا مكلّفين بالتفتيش الجسدي والاستجواب، لكنهم لم يخضعوا لأي فحص أمني من قبل الشاباك، وهو ما وصفته مصادر أمنية بأنه خلل فادح في الإجراءات.
في موازاة هذه التطورات، كانت وزارة الأمن قد درست مقترحات تقدمت بها شركات أخرى، من بينها شركة لرجل الأعمال الإسرائيلي-الأميركي موتي كاهانا، الذي شارك في تقديم خدمات لوجستية للجيش الأميركي في العراق وسورية.
اختيار SRS… دون مناقصة ودون علم الشاباك
في نهاية 2024، وبدون إعلان رسمي أو طرح مناقصة، بدأت شركة Safe Reach Solutions (SRS)، بقيادة الضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، فيليب رايلي، العمل في غزة.
ووفق “هآرتس”، فإن اختيار الشركة تم عبر طاقم خاص عيّنه غوفمان، من خارج الأجهزة الأمنية، و”بعيدًا عن علم الجيش الإسرائيلي أو الشاباك”. وأشارت الصحيفة إلى أن الفريق، الذي ضمّ أيضًا تنكمان وهكوهن، قاد اتصالات مع الشركة داخل إسرائيل وخارجها، بل وتمّ “تحويل ملايين الشواكل لها مقابل أعمال تخطيط، دون أي إجراء قانوني معروف”.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، سجّل ممثلو رايلي شركتين في الولايات المتحدة: SRS وGHF (صندوق غزة الإنساني)، الذي يتولى التمويل.
رايلي: من الكونترا إلى كابل إلى غزة
سيرة فيليب رايلي تلفت الانتباه: في الثمانينيات درّب قوات الكونترا اليمينية في نيكاراغوا، وفي 2001 كان من أوائل عملاء CIA في أفغانستان، قبل أن يُعيّن لاحقًا رئيسًا لمحطة الوكالة في كابل.
وغادر بعدها للعمل في شركات أمن خاصة، من بينها “Orbis” التي أعدت دراسة في 2024 تقترح نموذجًا مفصلًا لإدارة توزيع الغذاء في غزة عبر شركات خاصة.
ووفق “نيويورك تايمز”، أشرف متعاقدو SRS على نقطة تفتيش في غزة خلال الهدنة بين كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس 2025، و”يُنظر إلى هذا النشاط كاختبار أولي لنموذج أمني جديد”.
تمويل ضخم، وغياب تام للشفافية
وقدّرت وثيقة داخلية من شركة “Orbis” عدد الحراس المسلحين الذين سيشاركون في تنفيذ المشروع بـ 1000 عنصر، مع تغطية مساعدات غذائية لـ”مليون فلسطيني”، أي نحو نصف سكان القطاع. إلا أن هوية المموّلين ظلت طي الكتمان.
وقال رئيس صندوق GHF، جاك وود، في مقابلة مع “نيويورك تايمز” إن “المؤسسة تعمل باستقلالية، ولم تتلق تمويلًا إسرائيليًا”، لكنه رفض الكشف عن أسماء المموّلين أو من عيّنه على رأس المؤسسة. لاحقًا، ذكرت المؤسسة أن “دولة أوروبية غربية” قدمت أكثر من 100 مليون دولار، لكنها لم تسمّها.
وأضاف وود أن SRS ستكون “الشركة الأمنية الرئيسة المكلفة بحماية مواقع توزيع الغذاء في جنوب غزة”، وهي تطبّق عمليًا الرؤية التي وضعها هكوهن ورايلي. وقال إن مؤسسته ستقوم بتوظيف الشركة وتوفير التمويل اللازم لتشغيلها؛ ومن اللافت أن محاميًا واحدًا، جيمس كنديف، تولى تسجيل كل من SRS وGHF في الولايات المتحدة، وأن المؤسستين كانتا تتشاركان نفس المتحدثة الإعلامية حتى وقت قريب، ما يثير مزيدًا من الشكوك حول الفصل بين التنفيذ والتمويل.
تحذيرات دولية من تداعيات إنسانية
أثار المشروع اعتراضًا حادًا من الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية، التي رأت فيه خطرًا مزدوجًا: تقييد وصول المساعدات، واحتمال استخدامه كأداة لدفع السكان إلى النزوح من شمال القطاع. إذ جرى تحديد مواقع التوزيع الأولى في الجنوب فقط، وهو ما اعتُبر مؤشرًا على مسار تهجير غير معلن.
وردًا على هذه المخاوف، قال السفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكابي، في أيار/ مايو الجاري، إن “من الخطأ التام اعتبار المشروع خطة إسرائيلية”، لكن “نيويورك تايمز” نقلت عن مصادر متعددة، بينها مسؤولون إسرائيليون، أن “الخطة هي نتاج هندسة إسرائيلية كاملة من الأساس”.
ويبدو المشروع، كما يظهر من الروايتين، محاولة إسرائيلية لإعادة هندسة إدارة الحياة المدنية في غزة، عبر خصخصة الخدمات، وتجاوز المؤسسات الدولية، وفرض منظومة أمنية–لوجستية خاضعة لرقابة إسرائيلية فعّالة على الأرض. وقال أحد المسؤولين الأمنيين لـ”هآرتس”: “ما يجري ليس مجرد توزيع مساعدات، بل فرض واقع بديل – بلا رقابة، وبلا مساءلة، وبلا التزامات قانونية واضحة”.
المصدر: مرصد نيوز + وكالات